أعلن البروفسور كريس باسبي الأمين العلمي للجنة الأوروبية لمخاطر الإشعاع، في مقابلة حصرية مع قناة الجزيرة مؤخراً، عن نتائج التحليل والبحث والدراسة التي قام بها لمعرفة أنواع المواد الإشعاعية والمعادن المكتشفة في هواء وتربة قطاع غزة، بعد أشهر من إنتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي إستمرت مدة 22 يوم وذهب ضحيتها أكثر من 6500 شخص، بين شهيد وجريح، الغالبية العظمى منهم من المدنيين العزّل.
والبروفسور باسبي ذو مكانه علمية رفيعة، وهو واحد من أبرز خبراء الإشعاع في العالم وأحد الشهود المعتمدين لدى المحافل الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، وقد أدلى بشهادته من قبل على الآثار المترتبة على الأسلحة التي إستخدمت في الحروب، التي وقعت في العراق وكوسوفو ولبنان. وقد منع البروفسور باسبي من الدخول إلى قطاع غزة المحتل لإجراء التحليلات اللازمة، لكنه تمكن بمساعدة أطباء آخرين من الحصول على العينات التي يريدها.
وبحسب ما أفاد به البروفسور باسبي، فقد إستطاع الحصول على عينتين من قطاع غزة لتحليلها، احدهما كانت لفلتر سيارة إسعاف موشى بغبار الهواء، والثانية من تربة حفرة أحدثتها إحدى القنابل الإسرائيلية. ويؤكد البروفسور باسبي أن نتائج التحليل أظهرت أن فلتر سيارة الإسعاف إحتوى على نسبة من اليورانيوم، وأن عينة التربة إحتوت على نسبة عالية من اليورانيوم المخصب. كذلك أظهرت التحليلات وجود مستوى عال من عناصر الزنك والكروم والنيوبيوم في الجو. إن هذا التحليل ليس الأول من نوعه الذي يقوم به البروفسور باسبي، فقد إكتشف وجود نسبة عالية من مادة اليورانيوم في لبنان، من خلال عينات الفحص التي قام بتحليلها بعد العدوان الإسرائيلي في تموز 2006.
ويقول البروفسور باسبي: " القلق الحقيقي يكمن في أن الناس يستنشقون اليورانيوم...وهذا يعني أنهم سوف يصابون بأمراض، وسوف تكون هناك مشاكل صحية...والمشاكل الأساسية الناجمة من التعرض لليورانيوم هو أولا إحداث تشوهات وراثية في الأطفال... والنساء اللواتي يحملن أطفالا أو أجنة سيكون هناك خطر بأن يلدن أطفالا مشوهين، وسيكون هناك خطر أيضا بأن يصاب الطفل بالسرطان إذا كان هناك الكثير من اليورانيوم في الغلاف الجوي... فأنت تنظر إلى زيادة في السرطان لدى الأطفال وأيضا أوراما مخية وسرطان الدم أو اللوكيميا لدى الأطفال، ولاحقا سوف يكون هناك زيادة في السرطان لدى الراشدين أيضا. وهذا ما وجدناه في العراق، وأيضا ظهر هذا لدى الناس الذين عملوا في كوسوفو في مناطق، حيث استخدم اليورانيوم المنضب، ولكن أقول إن اليورانيوم إن كان منضبا أو طبيعيا أو مخصبا فهو سام بنفس الدرجة، اليورانيوم المنضب هو أقل إشعاعية واليورانيوم المخصب أكثر إشعاعية ولكن اليورانيوم هو مكمن المشكلة بحد ذاته".
وأشار باسبي في تقريره إلى انه واجه مشكلة كبيرة في العثور على معامل تقبل القيام بعملية تحليل هذه العينات، لا سيما حينما كانوا يعلمون أنها قادمة من قطاع غزة. وهذا يدل على قوة التأثير الإسرائيلي على تلك المعامل، حتى أن بعضها إعتذر عن تقديم النتائج بعد القيام بالتحليلات، حسب قول البروفسور باسبي.
إن الخطر من إشعاع اليورانيوم قد تستمر تداعياته على مدى أجيال متعاقبة، فنصف عمر هذه المادة طويل جدا. ويؤثر التعرض للإشعاعات الناتجة عنه إلى خلل في الجينات وتركيبتها الوراثية، ويزيد من نسبة إصابة الأشخاص بالسرطان على مدى الأجيال، حتى وإن ابتعد الناس عن مكان التلوث وذهبوا ليعيشوا في مكان آخر، فسوف يحملون هذه الأمراض الوراثية معهم.
إن العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة التي قامت بها في قطاع غزة خالفت بديهيات قوانين وأعراف الحرب، فلم تترك قوات الإحتلال الإسرائيلي فئة محمية في قطاع غزة، إلا وإستهدفتها بصواريخها وقذائفها. ولم تنته المعاناة الإنسانية في القطاع المنكوب بعد إنتهاء العمليات العسكرية. فحسب تقرير البروفسور باسبي فإن المعاناة الإنسانية الناتجة عن إستخدام أسلحة تحتوي على اليورانيوم المشع ستشمل تداعياتها أجيالاً قادمة.
لقد أرسى إعلان سان بطرس بيرغ، بشأن حظر استخدام بعض القذائف المتفجرة لعام 1868، قواعد ومعايير توجيهية لتقيد صناعة وإستخدام الأسلحة، التي أصبحت لاحقاً بمثابة أعرافاً دولية. ويؤكد الإعلان على أن التقدم الحضاري يجب أن يخفف قدر الإمكان من نكبات الحروب، وأن الهدف المشروع الوحيد الذي يجب أن تسعى إليه الدول أثناء الحرب هو إضعاف القوات العسكرية للعدو، وانه يكفي إقصاء اكبر عدد ممكن من الجنود من المعركة بغية تحقيق هذا الهدف، وانه قد يتم تجاوز هذا الهدف في حالة استخدام أسلحة تزيد بلا مبرر من آلام الأشخاص الذين أصبحوا عاجزين عن القتال أو تجعل موتهم محتوما، و أن استعمال هذه الأسلحة مخالف بالتالي للقوانين الإنسانية، لذا يجب التوفيق بين ضروريات الحرب وقوانين الإنسانية. وبناء على هذه القواعد والمعايير منع إستخدام بعض الأسلحة، فمثلاً: منع إستخدام الغاز السام في الحرب عام 1925، وحظر إستخدام الأسلحة البيولوجية في العام 1972، كما حظر إستخدام الأسلحة الكيماوية في العام 1993، ووضعت قيود على إستخدام الألغام الأرضية في معاهدة أوتوا في العام 1997، وفي نهاية العام 2008 وقعت الدول معاهدة أوسلو بشأن حظر الذخائر العنقودية.
إن تقرير البروفسور باسبي يشير بوضوح إلى أن الأسلحة التي إستخدمتها إسرائيل في عمليتها العسكرية على قطاع غزة فاقت الهدف المنشود للحرب، وهو القضاء على القدرة العسكرية للطرف الآخر. فعدد الضحايا المدنيين، والدمار في الممتلكات الخاصة والعامة، غير العسكرية، يدل بوضوح على الإستخدام المفرط للقوة المحظور دوليا، وإستخدام أسلحة لا تمييز بين الأهداف العسكرية والمدينة، وتؤدي إلى إحداث آلام لا مبرر لها، وتترك آثاراً مستقبلية سلبية على صحة السكان المدنيين والبيئة.
فالفقرة (ج) من القاعدة (12) في الدراسة حول القانون الدولي الإنساني العرفي التي أعدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر حظرت الهجمات العشوائية التي تستخدم فيها طريقة أو وسيلة قتال لا يمكن تحديد آثارها على النحو الذي يقتضيه القانون الدولي الإنساني، وإعتبرتها المادة (85) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 من الانتهاكات الجسيمة. وحظرت القاعدة (70) من الدراسة إستخدام وسائل وأساليب للقتال من شأنها إحداث إصابات أو آلام لا مبرر لها. وإعتبرت المادة (147) من إتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، تعمد إحداث آلام شديدة أو إلحاق أضرار خطيرة بالسلامة البدنية أو الصحة من المخالفات الجسيمة. وحظرت القاعدة (45) من الدراسة إستخدام أساليب أو وسائل للقتال يقصد بها، أو يتوقع منها، أن تسبب أضرارا بالغة، وواسعة الإنتشار وطويلة الأمد بالبيئة الطبيعية. كما حظرت المادة (55) من البروتوكول الإضافي الأول أطراف النزاع من إستخدام أساليب ووسائل قتالية يتوقع أن تلحق أضراراً بالبيئة الطبيعية وبالتالي بصحة أو بقاء السكان.
إذاً ما المبرر الإسرائيلي لإستخدام أسلحة تحتوي على اليورانيوم ذات الإشعاعات الضارة بالإنسان؟ وما المبرر الإسرائيلي لإستخدام أسلحة تزيد من حالات الإصابة بالسرطان وحالات تشوه الأجنّة الناتجة عن التعرض لإشعاعات مادة اليورانيوم التي لوثت هواء قطاع غزة؟ وماذا سيقول الإسرائيليون للأجيال القادمة عندما تصبح الحياة في القطاع خطيرة على حياتهم وحياة أولادهم؟
لقد خطا المجتمع الدولي خطوة جيدة، نهاية العام الماضي، بتوقيع معاهدة أوسلو، التي حظرت على الدول الأطراف استخدام وإنتاج ونقل وتخزين، بل وتدمير المخزون من الذخائر العنقودية التي تسبب ضررا غير مقبول للمدنيين، بالإضافة إلى وضع إطار للتعاون والمساعدة الدوليين لهذا الأهداف، وتوفير قدر كاف من الرعاية وإعادة التأهيل لضحايا هذه القنابل، وتنظيف المناطق الملوثة بها، وتعزيز النشر والتثقيف للحد من مخاطرها. وآمل أن يلجأ إلى نفس المبادرة لتوقيع معاهدة دولية بشأن منع تصنيع وإستخدام الأسلحة التي تحتوي على مادة اليورانيوم المشع، أو أي مادة أخرى مشعة يمكن أن تسبب خطراً على صحة وسلامة السكان المدنيين، أثناء العمليات العسكرية وبعدها.
الأحد أغسطس 09, 2009 8:59 am
